قبل بضعة أعوام نشر رسام الكاريكاتور الشهير "جاري لارسون" عملًا أطلق عليه "ماذا تسمع الكلاب؟"، محيلا إلى كلبه "جينجر" الذي يظهر في الرسم وهو يخاطبه صاحبه محذراً "لقد قلت لك جينجر: لا تقترب من القمامة، هل فهمت؟ ابتعد عنها!"، لكن إلى جانب هذا الجزء من الصفحة هناك جزء آخر يبدو فيه الكلب وقد سمع فقط من صاحبه كلاماً غير مفهوم، والحقيقة أني أورد هذه القصة لأنها تذكرني بخطاب الرئيس أوباما الذي وجهه إلى الشعب الأميركي من المكتب البيضاوي في الأسبوع الماضي، فرغم حرص الرئيس على تأكيد التزامه بمواصلة الحرب على الإرهاب والتشديد على الانخراط الأميركي، فإن ما سمعه الأعداء كان شيئاً مختلفاً تماماً، فهم فقط ركزوا على تصريحاته بأن أميركا ستسحب قواتها من البؤر الساخنة لتعيد ترتيب أولوياتها والاهتمام أكثر بالداخل، هكذا. ومن بين ما قاله الرئيس بشأن بالعراق "ستُنهي قواتنا عملياتها القتالية في العراق، لكن التزامنا بمستقبل العراق لم ينته"، سمع الأعداء قولا آخر لأوباما جاء فيه "لقد التزمنا بمسؤولياتنا، واليوم حان الوقت لطي الصفحة"، فضلا عن سماعهم لتعهده الواضح بأن "جميع القوات الأميركية ستغادر العراق بحلول نهاية العام القادم". وبالطبع يمثل هذا الإعلان بالانسحاب وإنهاء العمليات القتالية في العراق منتهى المنى بالنسبة للمتطرفين الإسلاميين سواء كانوا في كهوف وزيرستان أو في مناطق أخرى، والأمر نفسه ينطبق على أفغانستان، إذ في الوقت الذي أعلن فيه أوباما التزامه "بمنع تحول أفغانستان إلى قاعدة تخدم الإرهابيين"، فإن ما سمعه هؤلاء الإرهابيون هو تصريح آخر يقول فيه أوباما إنه "فيما ستحدد الظروف الميدانية وتيرة خفض قواتنا، لكن الأكيد أن تلك النقلة ستحدث لأن الاستمرار في حرب مفتوحة لن يخدم مصالحنا ولا مصالح الشعب الأفغاني". أما بالنسبة للأعداء فمن السهل تصور تأثير تلك التصريحات المتناقضة على فهمهم للسياسة الأميركية، وهو ما يؤكده قائد قوات مشاة البحرية الأميركية "جيمس كونواي" الذي قال عن موعد الانسحاب من أفغانستان "لا شك أنه يعطي لأعدائنا سبباً كافياً للاستمرار في ضربنا"، مضيفاً أنه تم بالفعل اعتراض اتصالات جرت بين أعضاء "طالبان" يؤكدون فيها الحاجة إلى الثبات ومواصلة استهداف الجنود الأميركيين، لأنهم يدركون بأن انسحاب القوات قادم لا محالة وبأن الجو سيخلو لهم مادامت أميركا لا تقوى على المواظبة والمثابرة فيما تقوم به، وبتعزيز هذا التصور من خلال خطابه الأخيرة وخطابات أخرى يعطي أوباما للأعداء طوق النجاة ويمنحهم فرصة النصر، وفي هذا الإطار أيضاً لا بد أن الأعداء سمعوا أوباما وهو يشتكي ويتذمر من التكلفة الباهظة للحرب والأموال التي أنفقت أثناء محاربتهم فيما الاقتصاد الوطني يعيش أزمة خانقة، فقد قال في هذا الصدد "مع الأسف أنفقنا على مدى العقد الأخير تريليون دولار في الحرب التي غالباً ما تمولها ديوننا الخارجية، وهو ما أثر سلباً على الاستثمار في مواردنا البشرية وأدى بنا إلى مستويات غير مسبوقة من العجز، ولفترة طويلة من مسارنا قمنا بتأجيل اتخاذ القرارات المهمة سواء تعلق الأمر بقاعدتنا الصناعية، أو بقانون الطاقة، أو حتى بإصلاح التعليم". وبالإضافة إلى هذا الحديث سمع الأعداء الكثير عن تركيز أوباما على "القضايا الأكثر استعجالا" المتمثلة في الانشغالات الداخلية مثل "منح أطفالنا التعليم الذي يستحقونه"، وضمان "انتهاء اعتمادنا على النفط الأجنبي". والحقيقة أن الأعداء ارتاحوا لهذه التصريحات التي تؤكد لهم أن هدف أوباما هو القضايا الداخلية وليس محاربتهم ودحرهم، لا سيما عندما يسمعون قوله "من الآن فصاعداً ستكون الأولويات الداخلية مهمتنا الأساسية كشعب ومسؤوليتي الأول كرئيس". ومع أن الحديث عن الانسحاب كان مضراً لسياستنا الخارجية، إلا أن الضرر الأكبر جاء من تصريحات أوباما حول نقل الاهتمام إلى الأولويات الداخلية لأنه حينها تأكد الأعداء وهم يرهفون السمع لتصريحات أوباما بأن استراتيجيتهم لهزيمة أميركا بدأت تعطي أوكلها، والدليل على ذلك الرسالة التي وجهها "أسامة بن لادن" إلى زعيم طالبان "الملا عمر" في العام 2002 وكشفتها قوات التحالف وفيها يوضح بن لادن أن الطريقة الأفضل لإخراج أميركا من أفغانستان هي إقناع الأميركيين بأن "حكومتهم ستأتي لهم بالمزيد من الخسائر في الأموال والأرواح"، وبتعزيز هذه الرسالة يقول بن لا دن للملا عمر فإنها "ستدفع الشعب الأميركي إلى الضغط على حكومته لوقف حملتهم على أفغانستان"، هذه الخطة يطلق عليها بن لادن استراتيجية "النزيف حتى الإفلاس"، وقد عبر عن ثقته في نجاحها لأنه يملك شيئا تفتقده الولايات المتحدة متمثلا في الصبر الاستراتيجي. وكما أوضح ذلك بن لادن في شريط مصور يعود للعام 2004 يتوفر الأعداء على ما يكفي من الوقت "لقد أدمينا روسيا لعشر سنوات حتى وصلت إلى الإفلاس واضطرت إلى الانسحاب وهي تجر ذيول الهزيمة، وسنستمر في إدماء أميركا إلى درجة الإفلاس". وتأتي تصريحات أوباما الأخيرة في خطاب الأسبوع الماضي لتؤكد تحليل "القاعدة" ولتمد زعيمها بالمزيد من الجرأة معبراً عنها بقوله "لا شك أن أميركا قوة عظمى...ولديها آلة عسكرية كبيرة واقتصاد حيوي، لكن كل ذلك مبني على أساس واه وغير متماسك، لذا من السهل استهداف تلك الأسس الضعيفة والتركيز على نقاط الضعف، وحتى لو تمكنا من استهداف عُشر نقاط الضعف تلك فإننا سنسحق أميركا وندمرها". مارك تيسين باحث في معهد "أميركان إنتربرايز" ومعلق في الصحف الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"